• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الشرق من وراء حجاب «الشرق المحتجب»

د. مراد هوفمان

الشرق من وراء حجاب «الشرق المحتجب»

على الرغم من أنّ العالم الغربي شنّ حروباً متتالية، قروناً بطولها على العالم الإسلامي سواء في الشرق الأوسط أو في البلقان، وفي إسبانيا وشمال إفريقيا أو في الهند، فإنّ العالم الغربي لم يحفل بمعرفة كُنه الإسلام طيلة تلك القرون، لا من الناحية الدينية ولا من الناحية الحضارية، اللّهم إلّا في حالات منفردة، ومن زوايا معينة، تتسم جميعاً بالتحيز، وعدم الموضوعية.

في وسط هذه الصورة عن الشرق تبرز صورةُ النقاب أو الحجاب الذي يبرز وجود المرأة المسلمة بالفعل في الشرق، وهذا ما يأباه الغربي، لأنّه مخالفٌ لتصوّره هو عن الشرق الغارق في الملذات، فالحجاب نقيض تصوّر الغربي، لأنّه دليل على العفّة التي تريدُ المرأة إبرازَها وتأكيدَها، ورمزٌ للالتزام الخلقي الذي لا يسمح للغرائز الجنسية أن تتبرج كما يحلو للبعض أن يراها ويعيشها في الغرب، أو قل لا يريد الغرب أن يفهمها، فضلاً عن أنّه لا يريد أن يعترف للإسلام بأنّه دين يدعو للفضيلة والأخلاق الحميدة، ويتمسك بها.

والحقّ أنّ الالتزام الخلقي يسود حياة المسلم والمسلمة، أو الوسط الإسلامي الحقيقي، فأنت لا ترى المداعبات الجنسية وتبادل القبلات ونحوها بين الرجال والنساء علناً في الشوارع والمحافل وغيرها، على العكس من السائد في الغرب المسيحي. كذلك يرفض الإسلام الأدب الداعر المكشوف وأفلام الجنس والصور العارية ونحو ذلك. ولا تمارس المسلمة أساساً أيةَ علاقات جنسية قبل الزواج، كما أنّ اللُقطاءَ والأطفال المولودين ولادةً غير شرعية من الأشياء النادرة في المجتمعات الإسلامية.

وفي هذا يتوفّر الإجماع الأساسي بين الشرق والغرب على أنّ كليهما يرفض أن يتعرى الإنسان تماماً من كافة ملابسه في الحياة اليومية العامّة، أمّا الخلاف بينهما فهو في مدى التعري المسموح به، أو الحد الأدنى من الملبس. هذا الاختلاف حول الحد الأدنى المسموح به من الملبس متفاوت حتى في داخل بلدان العالم الإسلامي نفسه وتُبيّنُ ذلك النظرةُ إلى الأزياء لدى المسلمين والمسلمات، أو قل أزياء النساء والفتيات في المغرب والجزائر والأناضول ومصر والمملكة العربية السعودية والباكستان وأندونيسيا وغيرها.

لهذا، خاصّة بعدما شنّ الفرنسيون الحرب في فر نسا على الحجاب أو تغطية الفتيات المسلمات شعرهن عام 1989م، فإنّ من المفيد أن نستعرض معاً الآيات البينات التي حددت الزي الواجب على المسلمات ارتداؤه، وتلك هي الآيات التالية:

1- الآية التاسعة والخمسون من سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).

2- الآية الحادية والثلاثون من سورة النور: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وأمّا الآيتان فهما تضعان المواصفات الرئيسة لثياب المرأة، وهي مواصفات تصلح لكلّ زمان، أو قل هي غير مرتبطة بزمان معين، فهما لا تفرضان على المرأة أن تلبس قطعة معينة من الملابس، فلم تشترطا مثلاً طرحة طويلة أو منديلاً كبيراً لغطاء الشعر، ومن جهة ثانية لم تفرضا أن تغطي تلك الطرحةُ أو ذاك المنديلُ ثديي المرأة أو صدرها، ذلك أنّ القرآن الكريم يفترض أنّ المرأة تلقائياً ستلبس أيّ قطعة من الملابس تغطي صدرها، وهذا ما يؤيده الواقع بالفعل.

وأمّا الآية الحادية والثلاثون من سورة النور فتذكر صراحةً الهدف من فرض الزي الذي يصون الإنسان، بينما ترى غضّ البصر وحفظ الفرج ليس مقصوراً على المرأة فحسب، فقد نصت الآية الثلاثون من سورة النور نفسها على أن يغضّ الرجال أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ثم تلتها كذلك الآية الحادية والثلاثون التي أمرت النساء بذلك (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ).

أما بقية الآية، فتنبه على المرأة، كما يذهب غيرُ واحد من المفسرين المصيبين، وأن تخفي زينتها "الجسدية" الثانوية، وألا تُظهِرَ منها لِغير المحارم، إلّا ما يَظهَرُ عادةً منها.

هنا، أرى حكمة بالغة في التعبير الحكيم (إلّا ما ظهر منها)، لأنّه يضع في الحسبان المقاييس المتباينة باختلاف العصور والحضارات، في اعتبار ما هو زينة ثانوية من أعضاء الجسد، وما هو غير ثانوي مثير للنزوات والغرائز الجنسية، فيما عدا الثديين والعورة.

هذه الأعضاء الثانوية التي قد تثير الغرائز الجنسية ونحوها، يمكن أن يكون منها شعرُ المرأة، على أنّ ذلك ليس محتماً أن يكون بالفعل (في كلّ مجتمع وكلّ عصر) مثيراً للنزوات والغرائز.

وبمعنى آخر، فإنّ القرآن في فرضه تغطيةَ شعرِ المرأة إنما يحتم ذلك في مواقع أو مظانّ الخطر الممكن حدوثهُ في حضارة معينة أو في مجتمعات بعينها، ونرى أنّ الفُسحة المقصودة في التعبير الحكيم (إلّا ما ظهر منها) تسمح بحدوث تغيير لباس المرأة، بحيث يلائم التغير العصري في الدور الوظيفي للمرأة، إذ إنّ ذلك التغير لازم وحتمي لتطوّر المجتمعات الإنسانية أخلاقياً واجتماعياً.

هذا الحُكم لجأ إليه كذلك الشيخ تيجاني خدّام، إمام المسجد الكبير في باريس، حيث قال في مقابلة صحفية له مع جريدة العالم الفرنسية في 24 أكتوبر 1989م ما يلي:

"إنّ الإسلام يوصي المرأة بالبساطة الأنيقة في الزي، وأن تغطي ما يجذب أنظار الشرهين من جسدها، ومن الممكن أن يكون المثير الجذاب فيها شعرها... أمّا مجال تنفيذ هذه الوصية بتغطية الشعر، فإنّ ذلك مرتبط بالمجتمع أو البيئة الحضارية التي تعيش فيها المسلمة".

وترى أقليةٌ من علماء الدِّين أنّ مغزى الآية الحادية والثلاثين من سورة النور هذه (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) إنما يتحقق أيضاً بعدم تغطية شعر المرأة وذلك حيث لا يكون شعر المرأة مصدر إثارة جنسية للرجل، كما هي الحال في شمال أوروبا وشمال أمريكا بوجه عام. على أنّ المتزمتين التقليديين المسلمين لا يسمحون بالاستثناء في تغطية شعر المرأة، مهما اختلفت العصور والأماكن، غير ملتفتين في ذلك إلى اختلاف العادات والتقاليد لهذه أو تلك من الحضارات على اختلاف أماكنها.

وعلى أية حال، فإنّ من الضروري تغطية شعر المرأة، أو قل إنّ ذلك لابدّ منه، في المجتمعات التي يكون الشعر فيها مصدر إثارة جنسية للرجل بشكل حاد، وذلك نتيجة تغطية المرأة لشعرها في الواقع العملي أجيالاً مستمرة بدون انقطاع، وتلك هي الحال في بعض مناطق وبلدان البحر الأبيض المتوسط، سواء بين المسيحيات أو المسلمات، حيث عرفت تلك الشعوب المسيحية والمسلمة تغطية شعر المرأة منذ قرون وقرون، ومارسته بالفعل حتى صار سُنّة تقليدية تشبّ عليه الصغيرات، وتطبقها الفتيات والسيدات، وتألفها المجتمعات. ويتأزم الموقف أو يتعقّد إذا غطت المسلمة شعرها في مجتمع تصطدم فيه حضارتان، إحداهما تألف الحجاب والأخرى تنفر منه وتأباه وترفضه، كما حدث ذلك في الأزمة المشهورة في فرنسا عام 1989م (أزمة الحجاب) حيث دأبت مسلمات - في المدارس والمصانع وغيرها - على تغطية شعورهن، مما أثار سخط الفرنسيين، خاصّة في أوساط العمّال وأنصاف المثقفين، ولمست ذلك المسلمات وعايشنه، وتوزعتهن المشاعرُ المتباينةُ، ففي المجتمع الإسلامي الداخلي الذي ينتمين إليه أو فيه وُلدن ونشأنَ ونمونَ، ينظر الرجل إلى شعر المرأة نظرة (جنسية) مغايرة لنظرة الفرنسي في المجتمع الغربي الذي انتقلن إليه أو اضطررن للعيش فيه...

ولعلّ من المفيد أن نذكرَ بأنّ الحجاب أو الخمار أو النقاب ليست من اختراع الإسلام بحال، فقد عرفتها الطبقات الراقية (الإرستقراطية) قبل الإسلام بقرون طويلة، في مصر الفرعونية، وبيزنطة وإيران، وحتى عهد ليس بالبعيد شغفت نساءٌ أوروبياتٌ بالخمار حُبّاً.

وليس من نافلة القول أن نشير إلى الفضيحة والزوبعة التي أثارتها راقصةُ البالية الشهيرة ماري تاجليوني في باريس مطلع القرن التاسع عشر، حيث جرؤت على الظهور على خشبة الأوبرا في باريس، بثوب أقصرَ من المعتاد بسنتيمتر واحد، مع كونه بالرغم من ذلك طويلاً يغطي الساقين.

إنّ المرأة المسلمة الأوروبيةَ، التي تغطي شعرها ممتثلة للشرع طوعاً، إنما تريد في المجتمع الغربي راحة البال، محاولةً ابتغاء مرضاة الله، مبتغية في الوقت ذاته الخروجَ من الدوامة الشيطانية التي تعصف بالمجتمع الغربي المتخذ جسدَ المرأة تجارةً رائجةً سوقُها، قاصدةً أن تعيد للمرأة من جديد كرامتها بوصفها امرأة، لا موضوعاً للجنس وتجارته... إنما تبرز زينتها لزوجها، غير عارضة لها نهباً للأنظار هنا وهناك، كأنّما تريد أن تعلن عن نفسها ليتقدم إليها الراغبون في الزواج. إنّ تلك المسلمةَ ذاتَ الخمارِ أو الحجاب إنما تريدُ أن تقول لمن حولها في البيئة التي تعيش فيها: أيّها الناس! إنّني امرأة لي كرامتي، عليكم أن تأخذوني مأخذ الجد، وليس لكم أن تنظروا إليَّ أو إلى ساقيَّ نظرة رخيصة خبيثة‍‍‍!.

إنّ لبس الخِمار أو وضع الحجاب أو النقاب بهذا المفهوم، عملٌ ثوري ورمز للاحتجاج أو الاعتراض على أسلوب الحياة وشروطها في أوروبا المعاصرة، وليس بأية حال رجوعاً مرتداً إلى التقاليد البدوية العتيقة التي صاحبت القبائل، وميزت كلّ قبيلة عن سواها باتخاذ هذا أو ذاك من اللباس.

 

المصدر: كتاب الإسلام كبديل

ارسال التعليق

Top